الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا (نسخة منقحة)
.الباب الثاني من الخاتمة في مطارات الحمام الرسائلي وذكر أبراجها المقررة بطرق الديار المصرية والبلاد الشامية: وفيه فصلان:.الفصل الأول في مطاراته: قد تقدم في الكلام على أوصاف الحمام- عند ذكر ما يحتاج إلى وصفه في أواخر مقاصد المكاتبات من المقالة الرابعة- أن الحمام اسم جنس يقع على هذا الحمام المتعارف بين الناس، وعلى اليمام والدباسي والقماري والفواخت وغيرها، وأن المتبادر إلى فهم السامع عند ذكر الحمام هو هذا النوع المخصوص، وأن أغلاه قيمة وأعلاه رتبة الحمام الرسائلي، وهو الذي يتخذه الملوك لحمل المكاتبات، ويعبر عنه بـ الهدي. وتقدم هناك الكلام على ذكر ألوانها على اختلافها، وعدد الرياش المعتبرة فيها، وهي رياش أجنحتها وأذنابها، وبيان الفرق بين الذكر والأنثى، وصفة الطائر الفاره، والفراسة في نجابته في حال صغره، والزمان والمكان اللائقين بالإفراخ، وما يجري مجرى ذلك مما يحتاج إليه الكاتب عند وصفه لبيان النجيب منه من غيره، فأغنى عن ذكره هنا.والمختص منه بهذا المكان ذكر الاعتناء بهذا الحمام، وأول من اهتم بشأنه، واعتنى بأمره، ومن قام به الملوك، ومسافات طيرانه، وما يجري هذا المجرى.فأما الاعتناء به والاهتمام بشأنه- فقد اعتنى به في القديم خلفاء بني العباس: كالمهدي ثالث خلفائهم، والناصر منهم، وتنافس فيه رؤساء الناس في العراق لا سيما بالبصرة. فقد ذكر صاحب الروض المعطار أنهم تنافسوا في اقتنائه، ولهجوا بذكره، وبالغوا في أثمانه، حتى بلغ ثمن الطائر الفاره منها سبعمائة دينار، ثم قال: ويقال: إنه بلغ ثمن طائر منها جاء من خليج القسطنطينية ألف دينار. قال: وكانت تباع بيضتا الطائر المشهور بالفراهة بعشرين ديناراً، وأنه كان عندهم دفاتر بأنساب الحمام كأنساب العرب، وأنه كان لا يمتنع الرجل الجليل ولا الفقيه ولا العدل من اتخاذ الحمام، والمنافسة فيه، والإخبار عنها، والوصف لأثرها، والنعت لمشهورها، حتى وجه أهل البصرة إلى بكار بن شيبة البكراني قاضي مصر، وكان فضله وعقله ودينه وورعه على ما لم يكن عليه قاضٍ بحمامات لهم مع ثقات، وكتبوا إليه يسألونه أن يتولى إرسالها بنفسه، ففعل. وكان الحمام عندهم متجراً من المتاجر، لا يرون بذلك بأساً.وذكر المقر الشهابي بن فضل الله في التعريف: أن الحمام أول ما نشأ بالديار المصرية والبلاد الشامية من الموصل الشهيد نور الدين بن زنكي صاحب الشام رحمه الله، في سنة خمس وستين وخمسمائة، وحافظ عليه الخلفاء الفاطميون بمصر، وبالغوا حتى أفردوا له ديواناً وجرائد بأنساب الحمام، وصنف فيه الفاضل محيي الدين بن عبد الظاهر كتاباً سماه: تمائم الحمام.قلت: وقد سبقه إلى التصنيف في ذلك- أبو الحسن بن ملاعب الفوارس البغدادي، فصنف فيه كتاباً للناصر لدين الله الخليفة العباسي ببغداد، وذكر فيه أسماء أعضاء الطائر ورياشه، والوشوم التي توسم في كل عضو، وألوان الطيور وما يستحسن من صفاتها، وكيفية إفراخها، وبعد المسافات التي أرسلت فيها، وذكر شيء من نوادرها وحكاياتها، وما يجري هذا المجرى، وأظن أن كتاب القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر نتيجة عن مقدمته.وأما مسافات طيرانه، فقد تقدم أن الطائر الدي بيع بألف دينار طار من القسطنطينية إلى البصرة، وأن الحمام أرسل من مصر إلى البصرة بحضرة القاضي بكارٍ قاضي مصر.وذكر ابن سعيد في كتابه حيا المحل وجنى النحل أن العزيز، ثاني خلفاء الفاطميين بمصر، ذكر لوزيره يعقوب بن كلس أنه ما رأى القراصية البعلبكية، وأنه يحب أن يراها. وكان بدمشق حمام من مصر وبمصر حمام من دمشق، فكتب الوزير لوقته بطاقة يأمر فيها من هو تحت أمره بدمشق أن يجمع ما بها من الحمام المصري، ويعلق في كل طائر حبات القراصية البعلبكية، ويرسلها إلى مصر، ففعل ذلك، فلم يمض النهار حتى حضرت تلك الحمائم بما علق عليها من القراصية، فجمعه الوزير يعقوب بن كلس وطلع به إلى العزيز في يومه، فكان ذلك من أغرب الغرائب لديه.وذكر أيضاً في كتابة المغرب في حلى المغرب أن الوزير اليازوري المغربي، وزير المستنصر بالله الفاطمي وجه الحمام من تونس من أقريقية من بلاد المغرب فجاء إلى مصر، والعهدة عليه في ذلك..الفصل الثاني من الباب الثاني من الخاتمة في أبراج الحمام المقررة لإطارتها بالديار المصرية والبلاد الشامية: هي من القواعد والطرق، على ما تقدم في البريد.أما في المسافات فإنها تختلف، فإن مطارات الحمام ربما زادت على مراكز البريد الأبراج الاخذة من قلعة الجبل المحروسة إلى جهات الديار المصرية قال في التعريف: واعلم أن الحمام قد انقطع تدريجه من مصر إلى قوص وأسوان وعيذاب. وهذا ظاهر في أن الحمام كان يدرج إلى هذه الأماكن، ثم أهمل تدريجه بعد ذلك. قال: ولم يبق منه الآن إلا ما هو من القاهرة إلى الإسكندرية، ومن القاهرة إلى بلبيس متصلاً بالشام.قلت: وآهل هذه الأبراج كلها برج قلعة الجبل المحروسة، ومنها التدريج إلى سائر الجهات.ثم لم يذكر في التعريف الأبراج الموصلة إلى أسوان وعيذاب والإسكندرية ودمياط.الأبراج الآخذة من قلعة الجبل إلى غزة من بروج قلعة الجبل- إلى بلبيس، ثم منها إلى الصالحية، ثم منها إلى قطيا، ومنها إلى الواردة، ثم منها إلى غزة.الأبراج الآخذة من غزة وما يتفرع عنها اعلم أن الأبراج من غزة تتشعب فيها مسارح الحمام إلى غير جهة دمشق وإلى جهتها.فأما غير جهة دمشق، فمن غزة إلى بلد الخليل عليه السلام، ومن غزة إلى القدس الشريف، ومن غزة إلى نابلس.وأما جهة الشام: فمن غزة إلى لد، ومن لد إلى قاقون، ومن قاقون إلى جينين، ومن جينين تتشعب المسارح إلى غير جهة دمشق وإلى جهتها.فأما إلى غير جهة دمشق: فمن جنين إلى صفد. وأما ما إلى جهة دمشق: فمن جينين إلى بيسان، ومن بيسان إلى أربد، ومن أربد إلى طفس، ومن طفس إلى الصنمين، ومن الصنمين إلى دمشق.قال في التعريف: ومن كل واحد من هذه المراكز إلى ما جاور ذلك من المشاهير: مثل من بيسان إلى أذرعات مقر ولاية الولاة بالصفقة القبلية، ومن طفس إليها- لإشعار والي الولاة.الأبراج الآخذة من دمشق وما يتفرع عنها تتشعب مسارح الحمام من دمشق إلى غير جهة حلب، وإلى جهتها. فأما إلى غير جهة حلب: فتسرح من دمشق إلى بعلبك، ومن دمشق إلى القريتين.وأما ما هو إلى جهة حلب: فتسرح من دمشق إلى قارا، ثم من قارا إلى حمص، ثم من حمص إلى حماة، ثم من حماة إلى المعرة، ثم من المعرة إلى حلب.الأبراج الآخذة من حلب وما يتفرع عنها برج الحمام من حلب إلى البيرة، ومن حلب إلى قلعة المسلمين، ومن حلب إلى بهسنى. قال في التعريف: وإلى بقية ماله شأن مما حولها، ثم من القريتين إلى تدمر، ومنها إلى السخنة، ومنها إلى قباقب، ومنها إلى الرحبة، وقد تعطل الآن تدريج السخنة إلى قباقب، وإنما صار يسوق ببطائق تدمر الواقعة بالسخنة منها إلى قباقب، ثم يسرح على الجناح من قباقب إلى الرحبة. قال: وبما ذكرتم ذكر مراكز الحمام في سائر الممالك الإسلامية.قلت: وقد تعطل تدريج الحمام الآن..الباب الثالث من الخاتمة في ذكر الهجن الثلج والمراكب المعدة لحمل الثلج الذي يحمل من الشام إلى الأبواب السلطانية بالديار المصرية: وفيه ثلاثة فصول:.الفصل الأول في نقل الثلج: اعلم أن ماء نيل مصر لما كان من الحلاوة والطافة على ما لايساويه فيه نهر من الأنهار، على ما تقدم ذكره في الكلام على الديار المصرية في المقالة الثانية، مع شدة القيظ بها في زمن الصيف، وسخونة الهواء الذي قد لا يتأتى معه تبريد الماء، وكان الثلج غير موجود بها، وكانت الملوك قد اعتادت الرفاهية مع اقتدارها على تحصيل الأشياء العزيزة، وولوعهم بجبلها من الأماكن البعيدة- إكمالاً لحال الرفاهية، وإظهاراً لأبهة الملك- دعاهم كمال الرفاهية والأبهة إلى جلب الثلج من الشام إلى مصر: لتبريد الماء به في زمن الحر. على أن ذلك كان في غيرهم من الملوك التي لا ثلج بحاضرتهم.وقد ذكر أبو هلال العسكري في كتابه الأوائل أن أول من حمل إليه الثلج الحجاج بن يوسف بالعراق. ثم لاعتناء ملوك مصر بالثلج قرروا له هجناُ تحمله في البر وسفناً تحمله في البحر، حتى يصل إلى القلعة المحروسة..الفصل الثاني من الباب الثالث من الخاتمة في المراكب المعدة لنقل الثلج من الشام: قد ذكر في التعريف: أنها كانت في أيام الملك الظاهر بيبرس، تغمده الله برحمته، ثلاث مراكب في السنة، لا تزيد على ذلك. قال: ودامت على أيام سلطاننا يعني الملك الناصر محمد بن قلاوون في السلطنة الثالثة، وبقيت صدراً منها، ثم أخذت في التزيد إلى لأن بلغت أحد عشر مركباً في مملكتي الشام وطرابلس، وربما زادت على ذلك. قال: وآخر عهدي بها من السبعة إلى الثمانية تطلب من الشام ولا تكلف طرابلس إلا المساعدة، وكل ذلك بحسب اختلاف الأوقات ودواعي الضرورات.قال: والمراكب تأتي دمياط في البحر، ثم يخرج الثلج في النيل إلى ساحل بولاق، فينقل منه على البغال السلطانية، ويحمل إلى الشرابخاناه وقد جرت العادة أن المراكب إذا سفرت سفر معها من يتدركها من ثلاجين لمداراتها. ثم الواصلون بها في البحر يعودون على البريد في البر..الفصل الثالث من الباب الثالث من الخاتمة في الهجن المعدة لنقل ذلك: قد ذكر في التعريف: أنه مما حدث في الدولة الناصرية محمد بن قلاوون واستمر. وقد كان قبل ذلك لا يحمل إلا في البحر خاصة. ثم ذكر أن هذه المراكز من دمشق إلى الصنمين، ثم منها إلى بانياس، ثم منها إلى أربد، ثم منها إلى بيسان، ثم منها إلى جينين، ثم منها إلى قاقون، ثم منها إلى لد، ثم منها إلى غزة، ثم منها إلى العريش، ثم منها إلى الواردة، ثم منها إلأى المطيلب، ثم منها إلى قطيا، ثم منها إلى القصير، ثم منها إلى الصالحية، ثم منها إلى بلبيس، ثم منها إلى القلعة.قال: والمستقر في كل ست هجن: خمسة للأحمال، وهجين للهجان، تكون كل نقلة خمسة أحمال، وهذه الهجن من الشام إلى العريش على المملكة الشامية، خلا جينين فإنها على صفد. ومن الواردة إلى القلعة هجن من المناخات السلطانية والكلفة على مال مصر. ولا تستقر هذه الهجن بهذه المراكز إلا أوان حمل الثلج، وهي: حزيران وتشرين الثاني؛ وعدة نقلاته إحدى وسبعون نقلة، متقارب مدد ما بينها، ثم صار يزيد على ذلك؛ ويجهز مع كل نقلة بريدي يتداركه، ويجهز معه ثلاج خبير بحمله ومداراته، يحمل على فرس ببريد ثان. قال: واستقر في وقت أن يحمل الثلاج على خيل الولاية.واعلم أن الثلج إذا وصل على المراكب والهجن حتى انتهى إلى القلعة، خزن بالشرابخاناه السلطانية. قال في التعريف: ومذ قرر أن يحمل من الثلج على الظهر ما يحمل، استقر منه خاص المشروب، لأنه يصل أنظف وآمن عاقبة، على أن المتسفرين يأخذون الجاشني منه بحضور أمير مجلس وشاد الشربخاناه السلطانية وخزانها. أما المنقول في البحر فلما عدا ذلك. قال: وللمهجرين به الخلع ورسوم الإنعام رسوم مستقرة، وعوائد مستمرة.قلت: وقد جرت العادة أن واصل الثلج في كل نقلة في البر والبحر تكتب به رجعة من ديوان الإنشاء، وهذا هو وجه تعلقه بديوان الإنشاء..الباب الرابع من الخاتمة في المناور والمحرقات: وفيه فصلان:.الفصل الأول في المناور: قال في التعريف وهي مواضع رفع النار في الليل والدخان في النهار.وذلك أن مملكة إيران لما كانت بيد هولاكو من التتار، وكانت الحروب بينهم وبين أهل هذه المملكة، كان من جملة احتياط أهل هذه المملكة أن جعلوا أماكن مرتفعة من رؤوس الجبال توقد فيها النار ليلاً ويثار الدخان نهاراً، للإعلام بحركة التتار إذا قصدوا دخول البلاد لحرب أو إغارة. وهذه المناور تارة تكون على رؤوس الجبال، وتارة تكون في أبنية عالية، ومواضعها معروفة تعرف بها أكثر السفارة، وهي من أقصى ثغور الإسلام كالبيرة والرحبة، وإلى حضرة السلطان بقلعة الجبل، حتى إن المتجدد بالفرات إن كان بكرة علم به عشاءً، وإن كان عشاءً علم به بكرةً. ولما يرفع من هذه النيران، أو يدخن من هذا الدخان أدلة يعرف بها على اختلاف حالات رؤية العدو والمخبر به باختلاف حالاتها، تارة في العدد، وتارة في غير ذلك. وقد أرصد في كل منور الديادب والنظارة، لرؤية ما وراءهم وإيراء ما أمامهم، ولهم على ذلك جوامك مقررة كانت لا تزال دارة. قال: وكان ينور بمدينة عانة من تلك المملكة قوم من النصاح بحجة أمر سوى التنوير، ويستر عليهم أهل البلد حباً لملوكنا، فترى نارة أو دخانة بخربة الروم وبالجرف أيضاً، ويرفع فيهما أو في إحداهما فيرى من كل منهما بوادي الهيكل، ويرفع فيه فيرى بالقناطر، ويرفع بالقناطر فيرى الرحبة، وقاها الله ويرفع بها فيرى كواثل، ويرفع فيها فيرى في منظرة قباقب، ويرفع فيها فيرى في حفير أسد الدين، ويرفع بها فيرى بالسخنة، فيرفع فيها فيرى بمنظرة أركٍ، فيرفع فيها فيرى بالبويب وهو قنطرة بين أركٍ وتدمر، فيرفع فيها فيرى بمنظرة تدمر، فيرفع فيها فيرى بمنظرة البيضاء، فيرفع فيها فيرى بالحير، فيرفع فيها فيرى بجليجل، فيرفع فيها فيرى بالقريتين، فيرفع فيها فيرى بالعطنة، فيرفع فيها فيرى بثنية العقاب، فيرفع فيها فيرى بمئذنة العروس، فيرفع فيها لما حولها، إنذاراً للرعايا وضماً للأطراف، فيرفع حول دمشق بالجبل المطل على برزة فيرى بالمانع، فيرفع به فيرى بتل قرية الكتيبة، ثم يرفع فيها فيرى بالطرة، ثم يرفع فيرى بجبل أربد وبجبل عجلون، ثم يرفع بهما فيرى بجبل طيبة اسم، ثم يرفع فيها فيرى بالمنور المعمول بإزاء البئر الذي برأس الجبل المنحدر إلى بيسان المعروف بعقبة البريد، لا عدول بطريف البريد الآن عنه، ويرى منه أطراف أعمال نابلس نحو جبال أبزيق وما حولها، ويرفع من هذا المنور الذي برأس عقبة البريد فيرى بالجبل المعروف بقرية جينين، ثم يرفع منه فيرى بجبل فحمة، ثم يرفع منه فيرى بشرفة قاقون، ثم يرفع منه فيرى بأطراف أعمال نابلس ويرى على قصد الطريق بذروة الجبل المصاقب لمجدل يابا، فيرفع منه فيرى بمركز ياسور المعدول بالبريد الآن عنه، ثم يرفع منه فيرى بالجبال المطلة على غزة، فيرفع بغزة على أعالي الحدب المعروف بحدب غزة، ثم لامنورو لا إخبار بشأن التتار إلا على الجناح والبريد.قال: ثم اعلم أن جميع ما ذكرناه مناور تتشعب إلى ما خرج عن جادة الطريق إلى البلاد الآخذة على جنب جنوباً وشمالاً، شرقاً وغرباً. أما منذ أصلح الله بين الفئتين، وأمن جانب الجهتين، فقد قل بذلك الاحتفال، وصرف عن البال. وهذه المناور رسوم قد عفت، وجسوم أكلت شعل النار أرواحها فانطفت.على أنه قد نص في التعريف على مناور طريق البيرة، ومناور طريق الرحبة، وهما من نفس المملكة.قلت: وهذه المناور مأخوذة عن ملوك الهند، فقد رأيت في بعض الكتب أن ببلادهم مناور على جبال مرتفعة، ترى النار فيها على بعد أكثر من هذه.على أن مرتبها بهذه المملكة أولاً أتى بحكمه ملوكية لا تساوى مقداراً، إذ قد ترقى في سرعة بلوغ الأخبار إلى الغاية القصوى. وذلك أن البريد يأتي من سرعة الخبر بما لم يأت به غيره، والحمام يأتي من الخبر بما هو أسرع من البريد، والمناور تأتي من الخبر بما أسرع من الحمام. وناهيك أن يظهر عنوان الخبر في الفرات بمصر في مسافة يوم وليلة..الفصل الثاني من الباب الرابع من الخاتمة في المحرقات: قال في التعريف: وهي مواضع مما يلي بلادنا من حد الشرق داخلة في تلك المملكة يعني مملكة بني هولاكو من التتار يجهز إليها رجال فتحرق زرعها، كأرض البقعة والثرثار والقينة، وباشنرة، والهتاخ، ومشهد ابن عمر، والمويلح، وبلاد نينوى من بر الموصل التي يقال إن يونس عليه السلام بعث إلى أهلها، والوادي، والميدان، والباب، والصومعة، والمرج المعروف ببني زيد، والمرج المحترق، ومنازل الأويراتية، وهي أطراف هذه المواضع إلى جبل الأكراد، بلاد سنجار- المنطق والمنظرة والمزيدة- وتحت الجبال عند التليلات، وكذلك التارات، وأعالي جبل سنجار وما إلى ذلك.وذلك أنه كان من عادة التتر أنهم لا يكلفون علوفة لخيلهم بل يكلونها إلى ما تنبت الأرض، فإذا كانت تلك أرض مخصبة سلكوها، وإذا كانت مجدبة تجنبوها؛ وكانت أرض هذه البلاد المتقدمة الذكر أرضاً مخصبة، تقوم بكفاية خيل القوم إذا قصدوا بلادنا، فإذا أحرقوا زرعها ونباتها ضعفوا عن قصد بلادنا وحصل بذلك جميع الرفق، والدفع عن مباغته الأطراف ومهاجمة الثغور. وكان طريقهم في إحراقها أن يجهزوا إليهم الرجال ومعهم الثعالب الوحشية وكلاب الصيد، فيكمنون عند أمناء النصاح في كهوف الجبال وبطون الأدوية، ويرتقبون يوماً تكون ريحه عاصفة وهواؤه زعزع، تعلق النار موثقة في أذناب تلك الثعالب والكلاب، ثم تطلق الثعالب، والكلاب في أثرها وقد جوعت، لتجد الثعالب في العدو، والكلاب في الطلب، فتحرق ما مرت به من الزرع والنبات، وتعلق الريح النار منه فيما جاوره، مع ما يلقيه الرجالة بأيديهم في الليالي المظلمة، وعشاء الأيام الممتعة. وكان ينفق في نظير هذا الإحراق من خزانة دمشق جمل من الأموال. قال: وكان الاهتمام بذلك في أول الأمر قبل أن يفطنوا التحريق، ثم نبههم على ذلك أهل المداجاة، فصاروا يربطون عليها الطرق، ويمسطون منها بالأطراف؛ وقتل عديد من الرجال بسببها، وأحرقوهم بأشد من نارها.وذكر أن مما كان يجتنب تحريقه- أرض الجبال، من حيث إنها بلاد بقية السلف الصالح من ذرية شيخ الإسلام الإمام الكبير العارف بالله عبد القادر الجيلي المعروف بالكيلاني، نفع الله تعالى ببركاته، لتعظيمهم من الجهتين، مع ما لهم عند ملوكنا من المكانة العلية: لقديم سلفهم، وصميم شرفهم، ولما للإسلام وأهله من إسعافهم بما تصل إليه القدرة ويبلغه الإمكان.قلت: وبتمام القول في هذا الطرف قد تم ما كنت أحأوله من التأليف، وأهتم به من الجمع؛ وبالله التوفيق، وإليه الرغبة؛ وهو حسبي ونعم الوكيل.واعلم أم المصنفات تتفاوت في الحظوظ إقبالاً ولإدباراً: فمن مرغوب فيه، ومرغوب عنه، ومتوسط بين ذلك. على أنه قل لأن ينفق تأليف في حياة مؤلفة، أو يروج تصنيف على القرب من زمان مصنفه.قال المسعودي في كتابه التنبيه والإشراف وقد تشترك الخواطر، وتتفق الضمائر، وربما كان الآخر أحسن تأليفاً، وأمتن تصنيفاً، لحكمة التجارب، وخشية التتبع، والاحتراس من موانع المضار. ومن هاهنا صارت العلوم نأمية، غير متناهية، لوجود الآخر ما لا يجده الأول، وذلك إلى غير غاية محصورة، ولا نهاية محدودة. على أن من شيم كثير من الناس إطراء المتقدمين، وتعظيم كتب السالفين، ومدح الماضي، وذم الباقي، وإن كان في كتب المحدثين ما هو أعظم فائدة، وأكثر عائدة.ثم حكى الجاحظ- على جلالة قدره- أنه قال: كنت أؤلف الكتاب الكثير المعاني، الحسن النظم، وأنسبه إلى نفسي فلا أرى الأسماع تصغي إليه ولا الإردادات تتيم نحوه، ثم أؤلف ما هو أنقص منه رتبة، وأقل فائدة، وأنحله عبد الله بن المقفع، أو سهل بن هارون، أو غيرهما من المتقدمين، ممن صارت أسماؤهم في المصنفين، فيقبلون على كتبها، ويسارعون إلى نسخها، لا لشيء إلا لنسبتها للمتقدمين، ولما يداخل أهل هذا العصر من حسد من هو في عصرهم، ومنافسته على المناقب التي عني بتشيدها.قال: وهذه طائفة لا يعبأ بها كبار الناس، وإنما العمل على أهل النظر والتأمل الذين أعطوا كل شيء حقه من القول، ووفوه قسطه من الحق، فلم يرفعوا المتقدم إذا كان ناقصاً، ولم ينقصوا المتأخر إذا كان زائداً؛ فلمثل هؤلاء تصنف العلوم، وتدون الكتب.وإذا كان هذا نقل المسعودي عن الجاحظ الذي هو رأس المصنفين وعين أعيانهم، فما ظنك بغيره؟.كني أحمد الله تعالى على رواج سوق تأليفي، ونفاق سلعته، والمسارعة إلى استكتابه قبل انقضاء تأليفه، حتى إن قلمي التأليف والنسخ يتسابقان في ميدان الطرس إلى اكتتابه، ومرتقب نجازه للاستنساخ يساهمهما في ارتقابه، فضلاً من الله ونعمه، {ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم}.نجزت تأليفه في اليوم المبارك، يوم الجمعة الثامن والعشرين من شهر شوال، سنة أربع عشرة وثمانمائة.
|